من طفولة في ألمانيا الشرقية إلى قيادة أقوى اقتصادات أوروبا، مذكرات ميركل تسرد حكاية قائدة في مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين. وتستعرض "إيلاف" ضمن هذا التقرير المذكرات على محاور متعددة، من طفولتها في ألمانيا الشرقية إلى تعاملها مع أبرز الأزمات العالمية، مرورًا بعلاقاتها المثيرة مع زعماء العالم.
إيلاف من لندن: على مدار 736 صفحة، تأخذنا أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، في رحلة فريدة داخل حياتها ومسيرتها السياسية من خلال كتابها الجديد "الحرية: مذكرات 1954-2021".
يتجاوز الكتاب كونه مذكرات شخصية ليصبح شهادة على حقبة سياسية حافلة بالتغيرات الكبرى، من الوحدة الألمانية إلى صراعات الطاقة والهجرة، ومن أزمات الاتحاد الأوروبي إلى تعاملها مع قادة العالم الكبار، أبرزهم فلاديمير بوتين.
بابتسامة متفائلة ونظرة موجهة إلى المستقبل، تقدم ميركل روايتها الشخصية والمهنية في "الحرية: مذكرات 1954-2021"
تجلس ميركل بابتسامة متفائلة وثوب أزرق أنيق، على غلاف الكتاب كأنها تقول للقارئ: هذه هي الصورة التي أريد أن تتذكروها لي، قائدة تحمل شعلة الحرية وتؤمن بقوة الحوار والتعاون. ولكن بين سطور الكتاب، هناك الكثير من التحديات والكواليس التي تكشف عن الأعباء التي حملتها ميركل خلال قيادتها لألمانيا.
طفولة تحت الحكم الشيوعي
تعود ميركل في بداية الكتاب إلى طفولتها في ألمانيا الشرقية، حيث واجهت قيود النظام الشيوعي الصارم. تقول: "في عالم مُقيد، كانت الحرية حلمًا صامتًا، لكنها أصبحت حافزًا قويًا لكل ما فعلته لاحقًا".
تلك الطفولة، التي قضتها في بيئة متقشفة ومحاطة بالرقابة، غرست فيها قيم المثابرة والتفكير العقلاني.
تحكي ميركل عن علاقتها بوالدها القس البروتستانتي، الذي علمها أهمية الصدق والعمل الجاد. وتضيف: "كان والدي يقول لي دائمًا: لا يهم إن كنتِ الأفضل، المهم أن تكوني الأمينة والأكثر التزامًا".
هذه القيم أصبحت أساس قيادتها لاحقًا، حيث ركزت على الشفافية والنزاهة في كل قراراتها السياسية.
تقول: "الحرية لم تكن كلمة تُستخدم بسهولة في عالم نشأت فيه. لكنها كانت دائمًا حلمًا يراودني، حتى عندما لم أكن أفهم تمامًا معناها".
وتشير ميركل في مذكراتها إلى رحلات عائلية نادرة إلى المسرح في برلين، بما في ذلك "دويتشه تياتر"، الذي أصبح الآن المكان الذي تحتفي فيه بكتابها. تصف تلك اللحظات بأنها "ذكريات لا تُنسى"، ما يُبرز البعد الإنساني لشخصية كانت دائمًا توازن بين أدوارها كقائدة وسياسية وإنسانة عادية.
"وجه ودود" في أزمة اللاجئين
من أكثر الفصول تأثيرًا في الكتاب، فصل بعنوان "وجه ودود"، حيث تروي ميركل قرارها الجريء بفتح أبواب ألمانيا أمام مئات الآلاف من اللاجئين في عام 2015.
تكتب: "كنت أعلم أن هذا القرار سيكلفني شعبيتي، لكنه كان الشيء الصحيح الذي يجب فعله. ألمانيا كانت قوية بما يكفي لتحمل هذا العبء، والإنسانية كانت تتطلب منا أن نتحرك".
هذا القرار، الذي أثار جدلًا عالميًا، يعكس فلسفة ميركل في القيادة: "القيادة ليست في اتخاذ القرارات السهلة، بل في اتخاذ القرارات الصحيحة". وتصف ميركل أزمة اللاجئين بأنها أصعب قرارات حياتها السياسية، وتقرّ بأنها كانت متمسكة بمبادئها رغم الانتقادات العنيفة التي تعرضت لها من الداخل والخارج، وترى أن قراراتها عززت مكانة ألمانيا كقوة أخلاقية في العالم.
"في انتظار فلاديمير بوتين"
تحت عنوان "في انتظار فلاديمير بوتين"، تقدم ميركل رؤيتها عن الرئيس الروسي، الذي شكل أحد أبرز التحديات في مسيرتها السياسية. تصفه قائلة: "بوتين ليس مجرد زعيم. إنه لاعب شطرنج في السياسة العالمية، يعرف متى يهاجم ومتى يترقب الفرصة المناسبة".
تكشف ميركل عن تفاصيل اللقاءات التي جمعتها ببوتين، بما في ذلك حادثة كلبته السوداء "كوني"، التي أثارت جدلًا واسعًا. تروي ميركل كيف أدخل بوتين الكلبة إلى الغرفة رغم معرفته بخوفها من الكلاب. تقول: "لم أكن أرى في الكلبة مجرد حيوان أليف. كانت رمزًا لاستعراض القوة. بوتين أراد أن يراني أتوتر، لكنه لم يدرك أنني تعلمت كيف أظل صامتة تحت الضغط!".
ميركل لم تتجنب الحديث عن الانتقادات التي وُجهت إليها بشأن سياستها تجاه موسكو، مؤكدة أنها اتخذت قراراتها بناءً على المصلحة العامة لألمانيا وأوروبا.
حفل افتتاح خط نورد ستريم في عام 2011. في الصورة ميركل والرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف
"نورد ستريم" تحت المجهر
يخصص الكتاب فصولًا لمناقشة سياسات الطاقة التي تبنتها ميركل، وخاصة مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم" الذي أثار انتقادات كبيرة بسبب اعتماد أوروبا المتزايد على الغاز الروسي. تدافع ميركل عن قرارها قائلة: "الطاقة كانت مفتاح الاستقرار الاقتصادي في أوروبا. كنا نحتاج إلى هذا التعاون مع روسيا، رغم علمنا بالمخاطر الجيوسياسية".
لكنها تعترف بأن هذا القرار كان معقدًا ومثيرًا للجدل، خاصة في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا. تكتب: "ربما لم نتوقع أن تتحول روسيا من شريك اقتصادي إلى خصم بهذا الشكل السريع. لكننا تعلمنا دروسًا مهمة".
الثورات الملونة: حديث عن الديمقراطية والنفوذ
في لقاء جمعها ببوتين عام 2006، حاولت ميركل مناقشة أهمية دعم الحريات الديمقراطية في روسيا، لكن النقاش سرعان ما تحول إلى مواجهة فكرية. تقول ميركل: "أخبرني بوتين أنه لن يسمح لروسيا بأن تتحول إلى أوكرانيا أخرى، وأن الديمقراطية الغربية ليست نموذجًا يناسب بلاده".
هذا النقاش أظهر عمق التباين بين رؤيتيهما للعالم: ميركل تؤمن بالديمقراطية كقوة للتحرير، بينما يرى بوتين أنها أداة للتدخل الغربي.
أوكرانيا والناتو: قرار تاريخي
من أكثر القرارات التي تطرقت إليها ميركل في الكتاب، كان رفض ألمانيا لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في قمة بوخارست 2008. تكتب ميركل: "كان القرار صعبًا، لكننا كنا نخشى أن يؤدي إلى تصعيد مباشر مع روسيا".
لكن مع الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، أصبح هذا القرار موضع تساؤل. تعترف ميركل بأن الوضع كان معقدًا، لكنها تؤكد أن كل خطوة اتخذتها كانت مدروسة للحفاظ على استقرار أوروبا.
ميركل والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يستمعان إلى بوتين بعد قمة حول أوكرانيا في قصر الإليزيه في باريس في ديسمبر 2019
يوم تغير العالم
تصف ميركل يوم 24 شباط (فبراير) 2022، يوم غزو روسيا لأوكرانيا، بأنه نقطة تحول في التاريخ الأوروبي. تقول: "كان ذلك اليوم إعلانًا لنهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة. العالم تغير بطريقة لم نكن نتصورها".
ترى ميركل أن هذه الحرب كشفت نقاط ضعف التحالفات الدولية، لكنها تؤمن بأن أوروبا ستتعلم من هذه التجربة لتصبح أقوى.
تقول: "كان هناك دائمًا خطر كامن، لكنه أصبح أكثر وضوحًا في الأشهر والأسابيع التي سبقت الغزو. رغم ذلك، لم أتصور أن الأمور ستصل إلى هذا الحد".
ميركل تشير إلى أن فلاديمير بوتين كان يستعد لهذه اللحظة منذ فترة طويلة. تضيف: "رأيت إشارات واضحة على أن بوتين ينظر إلى أوكرانيا كجزء لا يتجزأ من تاريخ روسيا، وأنه مستعد لفعل أي شيء لمنعها من الانضمام إلى الغرب".
ترى ميركل أن الغزو الروسي كان بمثابة نهاية للفترة التي تلت الحرب الباردة، والتي اتسمت بآمال كبيرة حول تحقيق نظام عالمي مستقر قائم على التعاون. تقول: "كان العالم يعيش في وهم أن السلام في أوروبا مضمون. لكن هذا الوهم انهار في يوم واحد".
تضيف: "الحرب في أوكرانيا لم تكن مجرد هجوم على دولة ذات سيادة، بل كانت هجومًا على النظام الدولي بأسره. بوتين أراد أن يثبت أن القوة العسكرية يمكن أن تعيد رسم الخرائط، وأن القوانين الدولية ليست سوى اتفاقات يمكن خرقها".
"نقاط ضعف التحالفات الدولية"
تكشف ميركل أن الحرب سلطت الضوء على نقاط ضعف خطيرة في التحالفات الغربية. تكتب: "رغم أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي أظهرا وحدة غير مسبوقة في الرد على الغزو، إلا أن هذه الوحدة جاءت متأخرة. لسنوات، كانت هناك مؤشرات على تصاعد التوترات، لكن الاستجابات كانت بطيئة ومجزأة."
تنتقد ميركل بعض الدول الأوروبية لتقاعسها عن زيادة الإنفاق الدفاعي أو مواجهة التحديات الجيوسياسية بشكل حاسم. تقول: "كان يجب أن ندرك منذ وقت طويل أن الاعتماد المفرط على الغاز الروسي سيقيد خياراتنا. لم تكن هذه مشكلة ألمانيا وحدها، بل مشكلة أوروبية عامة."
"دروس مؤلمة، لكنها ضرورية"
ورغم انتقادها للتأخر في التحرك، تبدي ميركل تفاؤلًا حذرًا بشأن المستقبل. تقول: "الأزمات دائمًا ما تكون فرصة للتعلم. أوروبا لن تكون كما كانت من قبل، لكنها يمكن أن تصبح أقوى إذا تعلمنا من هذه التجربة".
تشير ميركل إلى أهمية تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية وزيادة التنسيق بين الدول الأعضاء في الناتو والاتحاد الأوروبي. "الوحدة ليست خيارًا بعد الآن، بل ضرورة. إذا أرادت أوروبا أن تحافظ على مكانتها في العالم، فعليها أن تتحدث بصوت واحد وتتحرك بسرعة".
ميركل تتابع تدريبات وحدة دبابات تابعة لحلف الناتو في مونستر، ألمانيا، في 20 مايو 2019
قرار رفض انضمام أوكرانيا إلى الناتو: إعادة تقييم
تخصص ميركل جزءًا من المذكرات لمراجعة قرارها السابق برفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو في قمة بوخارست 2008. تقول: "في ذلك الوقت، كنت أؤمن بأن انضمام أوكرانيا سيؤدي إلى تصعيد غير ضروري مع روسيا. أردت تجنب الحرب، لكن يبدو أن الحرب كانت دائمًا جزءًا من خطة بوتين".
ورغم دفاعها عن القرار ضمن سياق تلك الفترة، تعترف ميركل بأن الأحداث أظهرت أن الاستراتيجيات السابقة لم تكن كافية لردع التهديد الروسي. تضيف: "كان يجب علينا أن نفكر في العواقب طويلة الأمد لترددنا".
"بوتين وإعادة رسم الخرائط"
تشير ميركل إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو انعكاس لطموحات بوتين لإعادة رسم خرائط أوروبا. تقول: "بوتين لم يتقبل أبدًا فكرة أن أوكرانيا دولة مستقلة. كان يرى فيها امتدادًا لروسيا، وهو مستعد لاستخدام كل الوسائل لإعادتها إلى دائرته".
في تحليلها لشخصية بوتين، تكتب ميركل: "كان دائمًا يرى نفسه وريثًا للإمبراطورية الروسية. بالنسبة له، السياسة هي لعبة القوة، وليست لعبة القوانين".
"أوروبا في مواجهة اختبار جديد"
تختتم ميركل هذا الفصل بتأملات حول مستقبل أوروبا بعد الحرب الروسية الأوكرانية. تقول: "لقد تعلمنا دروسًا قاسية، لكن هذه الدروس ستساعدنا في بناء مستقبل أقوى. أوروبا يجب أن تكون أكثر جرأة وأكثر استعدادًا لتحمل المسؤولية عن أمنها".
وتضيف: "في نهاية المطاف، السلام لا يأتي من الأوهام أو الأمنيات. السلام يحتاج إلى قوة تحميه، ووحدة تدعمه."
نظرة إلى الأمام: أمل في التغيير
ورغم الصورة القاتمة التي ترسمها ميركل للحظة الغزو، تبدي تفاؤلًا بإمكانية أن تؤدي هذه الأزمة إلى تغييرات إيجابية في النظام الدولي. تقول: "العالم تغير، لكننا ما زلنا نملك القدرة على تشكيل مستقبله. التحديات كبيرة، لكنها ليست مستحيلة".
بالنسبة لميركل، فإن يوم 24 فبراير 2022 ليس مجرد تاريخ في سجل الأحداث، بل هو علامة فارقة تعيد تشكيل فهمنا للأمن والسلام في العالم. في مذكراتها، تقدم هذا اليوم كنقطة تحول ليس فقط في التاريخ الأوروبي، بل في النظام العالمي ككل.
تقول في ختام هذا الفصل: "قد لا أكون في السلطة اليوم، لكنني أؤمن أن التحديات التي نواجهها الآن ستقودنا إلى إعادة تقييم قيمنا وأولوياتنا. العالم قد تغير، لكن إرادة التغيير نحو الأفضل لا تزال في أيدينا".
ميركل وترامب خلال قمة مجموعة السبع في كيبيك
العلاقة مع ترامب: صدمة اللقاء الأول
تحتل العلاقة مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مساحة خاصة في مذكرات ميركل، حيث تسلط الضوء على التوترات التي ميزت فترة تعاونهما وتحولت جزءًا لا يتجزأ من إرث ميركل كقائدة عالمية.
تصف ميركل هذه العلاقة بأنها واحدة من أصعب التحديات التي واجهتها خلال فترة عملها كمستشارة. تقول في أحد الفصول: "كان ترامب يمثل نوعًا مختلفًا تمامًا من القيادة: قيادة قائمة على الشعبوية والإثارة، وهي بعيدة كل البعد عن أسلوبي القائم على الواقعية والمبادئ".
الصدمة
تشير ميركل إلى أول لقاء جمعها بترامب في عام 2017 بعد انتخابه رئيسًا، حيث تصفه بأنه كان "لقاء بين ثقافتين سياسيتين مختلفتين تمامًا". تضيف: "ترامب كان مباشرًا للغاية، أحيانًا إلى درجة الاستفزاز. بدا وكأنه لا يهتم كثيرًا بالتقاليد أو الأعراف الدبلوماسية، وهو أمر جعلني أشعر أحيانًا بعدم الارتياح".
خلال هذا اللقاء، شعرت ميركل أن ترامب لم يكن مهتمًا كثيرًا بمناقشة التفاصيل السياسية أو تقديم رؤية استراتيجية طويلة المدى. تقول: "كان يفضل الحديث عن صفقات ومكاسب قصيرة الأجل، بينما كنت أبحث عن حلول دائمة ومستدامة".
"عليكم دفع المزيد"
واحدة من أبرز النقاط التي تطرقت إليها ميركل كانت الخلاف حول تمويل حلف شمال الأطلسي (الناتو). تصف كيف كان ترامب مصرًا على أن الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، يجب أن تزيد مساهمتها المالية في الحلف. في أحد الاجتماعات، قال ترامب لها: "لا يمكن لأميركا أن تستمر في حماية أوروبا دون مقابل. عليكم دفع المزيد".
تقول ميركل: "كان أسلوبه المباشر يحمل إهانة ضمنية، لكنه كان أيضًا يعكس طريقته في التفكير: كل شيء يجب أن يُحسب بالدولار والمكاسب الفورية". ورغم أنها اتفقت مع ترامب على ضرورة تعزيز الإنفاق الدفاعي الأوروبي، إلا أنها ترفض رؤيته الأحادية. "الناتو ليس مجرد تحالف عسكري، إنه رمز للتعاون والتضامن بين الديمقراطيات".
أزمة المناخ
من القضايا الأخرى التي أثارت التوتر بين ميركل وترامب كان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ. تصف ميركل هذه اللحظة بأنها "خيانة للقيم العالمية المشتركة". تقول: "حاولت أن أشرح لترامب أن هذه الاتفاقية ليست مجرد التزام سياسي، بل تعهد أخلاقي تجاه كوكبنا. لكنه كان يراها اتفاقًا غير عادل يضر بمصالح أميركا".
تضيف ميركل أنها شعرت بالإحباط خلال هذه المناقشات، حيث كان ترامب يركز على التكاليف الاقتصادية قصيرة المدى، بينما كانت هي تحاول التركيز على التداعيات البيئية طويلة المدى. "كان من الواضح أن رؤيتنا للعالم لم تكن فقط مختلفة، بل متضاربة تمامًا".
"قيادة عبر تويتر"
تنتقد ميركل في مذكراتها أسلوب ترامب في القيادة، خاصة اعتماده الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما منصة إكس (تويتر سابقا). تقول: "كان ترامب يدير جزءًا كبيرًا من سياسته عبر تغريدات قصيرة، وهو أمر بدا لي غريبًا للغاية. كيف يمكن لصانع قرار أن يلخص قضايا معقدة في 280 حرفًا؟".
تشير ميركل إلى أن هذا الأسلوب كان يمثل تحديًا كبيرًا للحكومات الأخرى، حيث كانت تغريدات ترامب تسبب أحيانًا ارتباكًا في العلاقات الدبلوماسية. "كانت تغريدة واحدة منه قادرة على تغيير مسار نقاش بأكمله أو خلق أزمة غير متوقعة".
"ألمانيا مدينة لأميركا"
في أحد الاجتماعات التجارية، أصر ترامب على أن ألمانيا تستفيد من التجارة مع الولايات المتحدة بشكل غير عادل. تقول ميركل إنه قال لها: "أنتم تبيعون سيارات مرسيدس وشركاتنا لا تحصل على نفس الفرص. هذا ليس عدلًا".
تضيف ميركل: "حاولت أن أشرح له أن العلاقات التجارية ليست لعبة ذات مجموع صفري. لكن كان من الواضح أن ترامب كان يرى التجارة كمسابقة يجب أن يخرج منها منتصرًا".
"الاحترام رغم الاختلافات"
ورغم كل التوترات، تؤكد ميركل أنها كانت تسعى دائمًا للحفاظ على علاقة عمل قائمة على الاحترام مع ترامب. تقول: "كان علينا أن نعمل معًا، بغض النظر عن خلافاتنا. كنت أرى أن الولايات المتحدة تظل شريكًا أساسيًا، حتى لو كان قائدها مختلفًا عن كل ما عهدته من قبل". تضيف: "لم يكن سهلاً دائمًا، لكنني تعلمت أن أتعامل مع ترامب بطريقة عملية: التركيز على النقاط المشتركة، ومحاولة تخفيف التوتر في النقاط الخلافية".
"لحظات تعليمية"
تنظر ميركل إلى علاقتها مع ترامب على أنها كانت "لحظات تعليمية"، حيث أجبرتها على التفكير بطرق مختلفة حول القيادة والسياسة الدولية. تقول: "ترامب كان يمثل تحديًا لكل ما اعتدت عليه في السياسة. لكنه جعلني أُعيد تقييم كيفية التعامل مع القادة الذين يرون العالم بطريقة مختلفة تمامًا".
تختتم ميركل حديثها عن ترامب بقولها: "ربما لم نتفق أبدًا، لكن علاقتنا كانت دليلًا على أهمية إيجاد طرق للعمل مع من تختلف معهم جذريًا".
ميركل وماكرون: "كنا نكمل بعضنا البعض"
تتناول ميركل علاقتها بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مسلطة الضوء على شراكة حاسمة بين ألمانيا وفرنسا، وهما الركيزتان الأساسيتان للاتحاد الأوروبي. تقدم ميركل صورة دقيقة عن تفاعلها مع ماكرون، كاشفة عن نقاط الالتقاء والاختلاف بينهما، وعن كيف أثرت شخصيتهما المتباينة في إدارة القضايا الأوروبية الكبرى.
لقاء بين جيلين
تصف ميركل أول لقاء جمعها بماكرون في عام 2017، بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الفرنسية. تقول: "ماكرون كان شابًا، طموحًا، مليئًا بالطاقة والأفكار الجديدة. كان يمثل جيلاً جديدًا من القادة الأوروبيين".
على النقيض، كانت ميركل في نهاية مسيرتها السياسية، أكثر خبرة وواقعية في نهجها. تضيف: "شعرت أن ماكرون يمثل حماس الشباب، بينما كنت أمثل الحذر الذي يأتي مع الخبرة".
رغم هذا التباين، أدركت ميركل أهمية بناء علاقة قوية مع ماكرون. تقول: "ألمانيا وفرنسا يجب أن تعملا معًا لضمان استقرار الاتحاد الأوروبي. لم يكن لدينا خيار سوى إيجاد أرضية مشتركة".
"يُحب المسرح السياسي"
من أكثر السمات التي تبرزها ميركل عن ماكرون هو ميله إلى استخدام الرموز والمسرح السياسي. تقول: "ماكرون كان يهوى استخدام الرمزية للتعبير عن أفكاره. كان يريد دائمًا أن يجعل من كل لقاء حدثًا كبيرًا".
تشير ميركل إلى أن هذا الأسلوب كان جديدًا عليها، لكنها احترمته كجزء من شخصية ماكرون. تضيف: "ربما لم أكن أشاركه نفس الحماس في التعبير، لكنني كنت أقدّر شغفه بإنعاش المشروع الأوروبي".
الاتحاد الأوروبي
تكشف ميركل في المذكرات عن خلافات مع ماكرون بشأن رؤيته لإصلاح الاتحاد الأوروبي. تقول: "ماكرون كان يريد تغييرات كبيرة وسريعة. تحدث عن الحاجة إلى تعزيز التكامل الأوروبي وإنشاء ميزانية مشتركة لمنطقة اليورو. بالنسبة لي، كانت هذه الأفكار طموحة، لكنها أيضًا محفوفة بالمخاطر".
رأت ميركل أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى التقدم بحذر، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهه. تقول: "كنت أؤمن بأن الإصلاح يجب أن يكون تدريجيًا. الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يتحمل خطوات غير محسوبة".
أزمة كورونا
تصف ميركل تعاونها مع ماكرون خلال جائحة كورونا بأنه كان نقطة تحول في العلاقة بينهما. تقول: "في مواجهة أزمة بهذا الحجم، كان علينا العمل معًا بشكل وثيق. ماكرون كان داعمًا لفكرة إنشاء صندوق تعافي أوروبي، وهو أمر كنت أعارضه في البداية".
رغم تحفظاتها، قررت ميركل دعم الصندوق في نهاية المطاف. تقول: "أدركت أن التضامن الأوروبي كان ضروريًا في تلك اللحظة. ماكرون كان محقًا في رؤية الحاجة إلى إجراء كبير يبعث رسالة أمل للدول الأكثر تضررًا".
"اختلافاتنا جعلتنا أقوى"
تشير ميركل إلى أن تباين شخصياتهما وأساليبهما كان أحيانًا مصدر قوة للشراكة الألمانية الفرنسية. تقول: "ماكرون كان يمثل الابتكار والطموح، بينما كنت أمثل الاستقرار والخبرة. معًا، كنا نكمل بعضنا البعض".
تضيف: "رغم خلافاتنا، كان هناك احترام متبادل. كنا نعرف أننا نعمل من أجل هدف مشترك: مستقبل أفضل لأوروبا".
"قائد ملتزم بأوروبا"
في خاتمة حديثها عن ماكرون، تعترف ميركل بأنها أعجبت برؤية ماكرون لأوروبا، رغم اختلافهما في النهج. تقول: "ماكرون كان دائمًا ملتزمًا بفكرة أوروبا قوية وموحدة. ربما لم نتفق دائمًا على كيفية تحقيق ذلك، لكنني كنت أقدّر شغفه وإصراره".
ورغم الاختلافات في الأسلوب والرؤية، تؤكد ميركل أن هذه الشراكة كانت أساسية في مواجهة التحديات الكبرى التي واجهها الاتحاد الأوروبي، من أزمة كورونا إلى خروج بريطانيا من الاتحاد.
تقول: "التاريخ علمنا أن ألمانيا وفرنسا يجب أن تعملا معًا. شراكتي مع ماكرون كانت مليئة بالتحديات، لكنها كانت أيضًا مليئة بالفرص. كنت دائمًا أؤمن بأن التعاون بين بلدينا هو مفتاح استقرار أوروبا ونجاحها".
ميركل وبريطانيا: ذكريات بريكسيت وعلاقتها بجونسون
تتحدث ميركل عن العلاقة المعقدة بين ألمانيا وبريطانيا، خاصة خلال حقبة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. تسلط ميركل الضوء على دورها في المفاوضات المتعلقة بـ"بريكست"، وتقدم تقييمًا لعلاقتها برؤساء الوزراء البريطانيين الذين تعاملت معهم، بما في ذلك بوريس جونسون.
خيبة أمل
تصف ميركل استفتاء بريطانيا على مغادرة الاتحاد الأوروبي عام 2016 بأنه كان "لحظة حزينة" في تاريخ الاتحاد. تقول: "لطالما كانت بريطانيا شريكًا حيويًا في الاتحاد الأوروبي. مغادرتها كانت ضربة قوية لمشروع الوحدة الأوروبية".
تضيف ميركل أنها رغم حزنها على نتيجة الاستفتاء، كانت ترى فيه انعكاسًا لتحولات أعمق في المجتمع البريطاني. تقول: "لم يكن التصويت مجرد رفض للاتحاد الأوروبي، بل كان تعبيرًا عن مشاعر الاستياء من العولمة والتغيرات السريعة التي شعرت قطاعات كبيرة من المجتمع البريطاني أنها تُقصيها."
"قائد ذكي"
عندما تتناول ميركل علاقتها برئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، تصفه بأنه كان "قائدًا مميزًا بمزيج من الذكاء والفكاهة، لكنه يميل إلى استخدام المسرح السياسي لتحقيق أهدافه".
تقول ميركل عن أول لقاء جمعها بجونسون: "كان ودودًا للغاية، لكنه لم يكن يخفي حقيقة أنه يريد إعادة تشكيل العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بطريقة تخدم مصالح بلاده فقط".
"أزمة البروتوكول الأيرلندي"
أحد الموضوعات التي ركزت عليها ميركل في مذكراتها هو الخلاف حول بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي كان من أكثر القضايا تعقيدًا في مفاوضات ما بعد بريكست. تقول ميركل: "كان جونسون يسعى لتحقيق أكبر قدر من الاستقلالية لبريطانيا، لكنه واجه تحديات كبيرة بسبب تعقيدات الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا".
تشير ميركل إلى أنها حاولت التعامل مع جونسون بطريقة عملية، لكنها شعرت أحيانًا أنه كان يميل إلى تجاهل التفاصيل لصالح الشعارات الكبرى. تقول: "السياسة تحتاج إلى أكثر من الكلمات الرنانة. الاتفاقيات تحتاج إلى احترام التفاصيل".
تصف ميركل جونسون بأنه كان "يحب إثارة الجدل ويستخدم الفكاهة كوسيلة لتمرير رسائله". لكنها تشير إلى أنه كان قادرًا على إظهار مرونة عندما تقتضي الضرورة. تقول: "رغم اختلاف أسلوبينا، كنت أرى أن جونسون يفهم أهمية العلاقة بين بريطانيا وأوروبا، حتى لو لم يكن يعبر عن ذلك صراحة".
"بريكسيت الحزين"
رغم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تؤكد ميركل على أهمية الحفاظ على علاقة قوية بين لندن وبروكسل. تقول: "بريطانيا قد تكون خارج الاتحاد الآن، لكنها لا تزال جزءًا من أوروبا. يجب أن نبني جسورًا جديدة للتعاون في قضايا الأمن والتجارة والمناخ".
تضيف: "التاريخ والجغرافيا يربطان بيننا. بريكست كان لحظة صعبة، لكنه ليس نهاية العلاقة بين أوروبا وبريطانيا".
لحظات شخصية
تشير ميركل إلى أن جونسون كان يحاول أحيانًا كسر الجدية في الاجتماعات من خلال مزحاته. تقول: "في أحد الاجتماعات، قال لي: 'ميركل، ربما لو أتيتِ إلى لندن لتذوقي الشاي الإنجليزي، كنت ستفهمين لماذا نحن مصرون على الاستقلال'. كنت أبتسم، لكنني كنت أركز على التفاصيل العملية".
وفي تحليلها لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تشير ميركل إلى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتعلم من هذه التجربة. تقول: "بريكست كان رسالة تحذيرية. يجب على القادة الأوروبيين أن يستمعوا إلى مخاوف شعوبهم بشكل أفضل. الوحدة الأوروبية تعتمد على الشعور بالانتماء، وليس فقط على الاتفاقيات."
في النهاية، تقدم ميركل صورة متوازنة عن علاقتها بجونسون. تقول: "لم نتفق دائمًا، لكننا كنا ندرك أن مستقبل أوروبا وبريطانيا يتطلب التعاون".
تشير ميركل إلى أن هذه العلاقة كانت مليئة بالتحديات، لكنها تعلمت منها الكثير. تقول: "السياسة ليست فقط عن النجاح، بل عن إيجاد طرق للعمل مع من تختلف معهم. وهذا ما حاولت تحقيقه مع جونسون".
ميركل كبطلة إنسانية وسياسية
لا تخلو المذكرات من لمحات إنسانية وطريفة، مثل هدية بوتين لها كلب لعبة محشو قائلًا: "إنه لا يعض!"، في محاولة لإضفاء جو من المرح، لكنه لم ينجح تمامًا في إخفاء رسائله الضمنية.
تكتب ميركل: "كان عليّ أن أبتسم وأتحمل الأمر. في النهاية، السياسة ليست فقط قرارات جادة، بل أيضًا لحظات صغيرة تُظهر طبيعة الأشخاص".
لا تقتصر اللحظات الطريفة في المذكرات على قصص بوتين فقط. ميركل تقدم لمحات عن حياتها اليومية وكيف كانت تجد في التفاصيل الصغيرة متنفسًا من ضغوط السياسة. تروي مثلًا كيف كانت تستمتع بتحضير الطعام في المنزل مع زوجها قائلة: "في المطبخ، كنت أجد هدوئي. كان ذلك الوقت الخاص بي حيث أستطيع التفكير بعيدًا عن السياسة".
لحظات إنسانية خلف الكواليس
تتضمن المذكرات قصصًا شخصية تعكس الجانب الإنساني من حياة ميركل. في إحدى الفقرات، تحكي عن حبها للموسيقى الكلاسيكية وكيف كانت تلجأ إلى عزف البيانو كوسيلة للتأمل خلال الأوقات العصيبة. تقول: "في عزف البيانو، وجدت السلام. كان ذلك هو الوقت الذي أستطيع فيه أن أترك السياسة جانبًا وأركز فقط على الموسيقى".
الكتاب والانتخابات
الكتاب، الذي صدر بالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات في ألمانيا، ليس مجرد سرد ذاتي، بل وثيقة سياسية وإنسانية تثير اهتمام الأوساط المحلية والعالمية.
وفقًا للصحفي رالف بولمان، فإن الأحزاب الألمانية المختلفة ستستخدم المذكرات لاقتباس مقاطع تدعم حملاتها الانتخابية.
ويشير بولمان أيضًا إلى الجدل المحلي حول شعبية ميركل، مشيرًا إلى أن قاعدة مؤيديها لا تزال واسعة، رغم الانتقادات المتعلقة بعدم اتخاذها خطوات جريئة في قضايا الإصلاح الداخلي مثل تحديث الجيش الألماني وسياسات المناخ.
نجاح عالمي وأرقام قياسية
بفضل شهرتها العالمية، أُصدر الكتاب في أكثر من 30 دولة، من بينها الصين ودول أوروبية كبرى، إلى جانب نسخة صوتية بصوت الممثلة الألمانية الشهيرة كورينا حرفوش. يُشار إلى أن ميركل تلقت مقدمًا ماليًا يُقدر بـ12 مليون يورو عن الكتاب، وهو مبلغ استثنائي في سوق النشر الألماني.
ومع الأرباح الجيدة التي يحققها الكتاب، تكشف ميركل لمجلة "دير شبيغل" نيتها استخدام جزء من هذه الأموال لإنشاء مؤسسة خيرية مشابهة لمؤسسة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي سيشاركها تقديم الكتاب في فعالية بواشنطن.
الرمزية في اختيار المسرح الألماني
يشار إلى أن اختيار "دويتشه تياتر" لتقديم الكتاب لم يكن وليدة الصدفة. هذا المسرح، الذي يقع بالقرب من مكان إقامة ميركل سابقًا في برلين الشرقية، يُعتبر شاهدًا على الانقسامات الألمانية التي عاشتها ميركل في شبابها. واليوم، تعود إليه كنجمة مسرحية في عالم السياسة والثقافة، ما يضفي طابعًا رمزيًا عميقًا على الحدث.
يصفها الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، بأنها رمز للقيادة الحكيمة
بعد الرحيل عن السلطة
رغم إنجازاتها العديدة، تظل ميركل شخصية متواضعة. في أحد فصول الكتاب، تتحدث عن خططها لما بعد الرحيل عن المنصب، قائلة: "لا أطمح إلى بناء مؤسسة ضخمة مثل باراك أوباما، لكنني أريد أن أساهم في دعم الأبحاث العلمية والتعليم. هذا هو إرثي الحقيقي".
وتضيف أنها ما زالت تحب قضاء الوقت في المطبخ مع زوجها، قائلة: "الحياة البسيطة كانت دائمًا مصدر قوتي. القيادة لا تعني التخلي عن الإنسانية".
رسالة للعالم
تختتم ميركل المذكرات برسالة واضحة: "العالم يمر بتغيرات كبيرة، لكنني أؤمن أن الإنسانية يمكنها دائمًا أن تنتصر. القيادة ليست في فرض القوة، بل في بناء الجسور والتواصل".
بهذه الكلمات، تؤكد ميركل أن رحلتها السياسية كانت أكثر من مجرد قرارات وأرقام، بل تجربة إنسانية عميقة ألهمت الملايين حول العالم.